* * *(بتصرف من تفسير الأستاذ / أمين صبري) هذه السورة ليست سورة شخصية.. حيث إنّ أكثر الناس فساداً في الأرض كان فرعون.. و السورة اسمها (المسد).. بهذا ليست السورة عن شخص معيّن مهما كان هذا الشخص.. و السورة وردت قبل سورة الإخلاص.. قُلْ هُو اللَّهُ أَحَدٌ.. و وردت بعد سورة النصر.. إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ و الْفَتْحُ.. سورة النصر دلت كما رأينا على الاستقرار في المدينة و ما حولها و استتباب الأمن في جزيرة العرب.. لهذا جاءت السورة لتذكّر بمن يُشعل الفتن في أيّ بلد و مجتمع.. فهذه ظاهرة (أبو لهب) موجودة في أيّ مكان و أيّ زمان.. و أبو لهب ليس شخص ذكر و لا أنثى، بل ظاهرة.
تَبَّتْ
يَدَا أَبِي لَهَبٍ و تَبَّ.. (تب) مكونة من حرفين التاء و الباء (وهو مشدّد)..
مثالها (أب) و هو الذي يعكس تصرفات الابن الولد، و يقيّم سلوك الولد الصغير الطفل..
فالباء معناها قلب الشأن إلى النقيض.. و مثلها (باب)، حيث الباب يقلبك من الشارع
للسكن و من الحركة إلى السكون.. و مثلها (ربّ) فهو يعطيك ما يعكس حالك، فإن كنت جائعاً
يحوّلك من الجوع إلى الشبع، و إن كنت فقيراً يحوّلك من الفقر إلى الغناء.. و هكذا.
إذاً
(تبّ).. جاءت في قوله تعالى:
·
{.. و مَا
كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ} غافر: 37
·
{… لَمَّا
جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ و مَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ}
هود:
101
·
تَبَّتْ يَدَا
أَبِي لَهَبٍ و تَبَّ.. ارتبط التباب باليدين.. و اليد هي أداة التحريك و التأثير..
بينما الرِّجل هي أداة الحركة و الأثر و المشي {وَاللَّهُ
خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ
يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ و مِنْهُمْ مَنْ
يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ و مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ
مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} النور: 45.. إذاً
التأثير يكون ناتجاً عن تحريك الأشياء بالأيدِ.. و إذا تمّ إبطاله أو إلغاؤه فهو
التباب.. و هذا مفهوم (تبّت يدا).. و التتبيب أيْ أنْ تكون النتيجة صفر.. أيْ أنّه
يعمل عمل فيُمحي أثره.. فعندما يقول I.. تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ و تَبَّ يعني ليس لها أيّ
مدى و هي غير قادرة على تحريك الأشياء و التأثير و إن وجد أثر فسيتم محوه.
أَبِي لَهَبٍ.. صفة لشخص يعمل هذا
اللهب.. فهي درجة و مرحلة متقدّمة في الإفساد عالية، مُفسد لدرجة النخاع.. و كلمة لهب
(اللام و الهاء و الباء)، يتوسطها حرف الهاء و هو حرف التفريغ، فعند نُطق هذا
الحرف فأنت تفرّغ الرئتين من الهواء.. و (لهب).. كلمة تعني إفساد الشيء بتفريغه
بشكل لا يمكن إرجاعه.. مثل حرق الأشياء، فهو يدمّر الشيء عن آخره.. فأيّ شيء يأخذ
مساحة وحيز فإذا أحرقته، فبعد الاحتراق يبقى رماد و تكون المساحة كلها تفرّغت.
أَبِي لَهَبٍ.. يعني أيّ شخص عنده
القدرة في أيّ مجال و في أيّ بلد على تغيير و تحريك الأشياء للإفساد أو التخريب أو
التدمير.. حتى على مستوى العائلة قد تجد من يملك القدرة على تحريك المواضيع و حرقها
بعضها ببعض بشكل لا يمكن إصلاحها من بعْده..
و كذلك على مستوى الدولة قد تجد شخصاً يحرق البلد و ينشر الفتنة بين الناس..
و كلمة (لهب) قد تكون مادية، أو معنوية، أو نفسية، أو علاقات اجتماعية.. فقد
يستخدم (أبو لهب) القانون لتدمير الناس و ظلمهم.. و لا يمكن إصلاح الأحوال من
بعده.. و هذه الصفة تنطبق على الذكور و الإناث.. فيكون عند هذه الشخصية حِرَفية و
احترافية بطريقة الإفساد لدرجة الإهلاك.
مَا
أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ و مَا كَسَبَ.. المال يوفّر للإنسان الاستغناء عن غيره
فيكون غير خاضع للناس.. و كلما كان معك مال أكثـر كلما كنت مستغنياً أكثر، و لأن
المال يوفر للإنسان قيمة الغنـى و الاستغناء مثل الحرية في الشراء و الحرية في الحركة..
فهذا المال لن يحقق له قيمة الغنـى هذه.. فأبو لهب يحرِق مالاً مستغني عنه، بينما
هو للآخرين يعطي قيمة الغنى و الكسب.. {كُلُّ نَفْسٍ
بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} المدثر: 38.. و المكسب فعل نفسي ناتج
عن عمل مادي.. فإن أنت أكلتْ و هو فعل جسدي تكون نفسك كسبت من الأكل الشبع.. و إن
أنت اشتريت سيارة فالنتيجة أن يكون مزاجك مرتاحاً؛ فتخرج في أيّ وقت تشاء و هذه
راحة نفسية.. فهذا الكسب و الحالة النفسية لن يصل لها (أبو لهب).
من
أمثال (أبو لهب):
·
من صنع الفيروسات و نشرها
بين الإنسانية بقصد قتلهم.
·
من صنع الأسلحة النووية و
القنابل الفراغية بهدف التخلص من الإنسانية.
·
من يستخدم الأموال الساخنة
في سرقة أموال الناس.
·
من يستخدم القوانين و
الأنظمة القمعية لتهجير الناس من بلادهم.
إن
قراءة هذه السورة و التـي تُعتبـر تردداتها الصوتية تعويذة من كل فاسد بقوة
اللهب.. سينتج عن تلاوتها تردد صوتي و طاقة تعمل كأنها سياج يحميك من هذا اللهب بإذن
الله.
سَيَصْلَى
نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ.. كلمة (يصلى) تشبه كلمة (يصلي) فيها حرف الصاد.. و مثلها
الصلاة، الصيام، الصوت، الصيحة و خلافه.. و حرف الصاد هذا من حروف المعلومات
الأمرية (من عالم الأمر).. يصلى ناراً.. أيْ ستصل النار إلى اللب مادياً و
نفسياً.. مثلما (يصلي) حيث تتطلب الصلاة حضور اللبّ و هو القلب، العقل و الجسد كي
نسميها (صلاة).. و (يصلى) هنا أشدّ و أقوى من المسّ من النار.. {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا
أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ و غَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}
آل
عمران: 24..
فالنار تمسّ في الإحراق.. و لكنها أشدّ ما تكون في (يصلى) حيث تصل للبّ.. لداخل
الخلية المادية في الجسد و لداخل النفس {الَّتِي
تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ} الهمزة: 7.
نَارًا.. جاءت هنا نكرة.. فلو كانت نار الآخرة لجاءت
معرّفة:
–
{النَّارِ
ذَاتِ الْوَقُودِ} البروج: 5..
–
{أَفَرَأَيْتُمُ
النَّارَ الَّتِي تُورُونَ} الواقعة: 71..
–
{فِي
الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ}
غافر:
72..
–
{وَاتَّقُوا
النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} آل عمران: 131….
و غيرها من الآيات.. لكن هذه السورة لا علاقة لها
بالآخرة.. فهي تتكلم عن أحداث و أمور في الحياة الدنيا.. فأبو لهب، هذا الشخص سيصلى
ناراً ذات لهب.. ناراً غير الجحيم أو جهنم أو السعير.. فنحن نعلم أن النار (نون
الألف راء) معناها الشيء الذي يبطل الحركة.. لوجود الألف في منتصف الكلمة.. فإذا
وضعتَ جِسماً يتحرك في النار فإنه سيخمد.. فالنار عبارة عن ظرف يُخمد حركة الشيء.. و عكسها النور (نون- واو – راء) وسطه الواو؛
فهو الشيء الذي يبطل السكون و الجهل و العتمة.. فالنور يوضح الأشياء فتتحرك، فيُبطل
العتمة و السكون.
ذَاتَ
لَهَبٍ..
أيْ سيدخل في موقف و في تجربة في مكيدته نفسها فيتوقف عن الحركة.. أيْ يقع في شرّ
أعماله.. و هذ سبب كون (ناراً) نكرة.. فهي قادرة على إحراقه هو كذلك في الحياة
الدنيا.. و هنا الجزاء سيكون من جنس العمل.
وَ امْرَأَتُهُ
حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ.. امرأتُه مرفوعة
و حمّالَةَ منصوبة.. الحطب في جيدها.. يعـني الضمير (ها) عائد على الحطب.. و الحطب
كلمة جمع مذكر، و في القرآن الكريم كل كلمة جمع مذكر غيـر عاقلة، توصف جماداً أو حيواناً
يعاملها القرآن معاملة المفرد المؤنث.. و مثال على هذا {فَإِذَا
النُّجُومُ طُمِسَتْ} المرسلات: 8.. {وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ
(2) و إِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) و إِذَا
الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) و إِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ
(5) و إِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6)} التكوير: 2 – 6.. {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) و إِلَى
السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) و إِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ} الغاشية: 17 –
19..
النجوم، الجبال، العشار، الوحوش، البحار و الإبل كلها جمع مذكر غيـر عاقل عاملها
القرآن مفرد مؤنث.. و مثلها (الحطب).
فِي
جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ.. اسم السورة “المسد” (ميم و سين و دال)
السين حرف الطاقة.. و الميم و السين مثل المسّ المرتبطة في النار.. إذاً يمكن وصف المسد
بأنه الفتيل القابل للاشتعال.. فيكون الحطب بداخله فتيل قابل للاشتعال، و هذا
الحطب يمثل أيّ مادة قابلة للاشتعال مثل البارود حتى اليورانيوم.
وَ امْرَأَتُهُ.. امرأة مؤنثة..
و مذكرها (مرء):
–
{يَوْمَ
يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ} عبس: 34..
–
{.. يُفَرِّقُونَ
بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ و زَوْجِهِ..} البقرة: 102..
–
{لِكُلِّ امْرِئٍ
مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} عبس: 37..
–
و المريء {وَ آتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ
طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} النساء: 4..
كلمات
القرآن (امرأة و مرء و مرئ) لها شقان:
–
الشق الأول الصورة الساكنة
للشيء.. فالمرأة سكنٌ للزوج {هُو الَّذِي خَلَقَكُمْ
مِنْ نَفْسٍ واحدةٍ و جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ
إِلَيْهَا..} الأعراف: 189..
–
الشق الثاني الوعاء.. و هي
وعاء له يفرغ بها كل ما عنده.. و نلاحظ أن هذه الخاصية تنتفي يوم القيامة لقوله
تعالى {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) و
أُمِّهِ و أَبِيهِ (35) و صَاحِبَتِهِ و بَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ
مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ}
عبس:
34 – 37..
لهذا يعود وصف المرأة إلى صاحبته.. و يصبح الذكر و الأنثى كلهم امْرِئٍ.
امْرَأَتُهُ.. هي الوعاء الذي وضع أبو لهب فيه مكيدته.. فإن كانت
مكيدته قنبلة فهي تعكس عمله فتكون امرأته هي القنبلة (غير عاقل).. و إن كانت
مكيدته نشر الفيروسات تكون امرأته الفيروسات.. و هكذا.
لهذا
كانت حمّالة مفعول منصوب و هي غيـر عاقل.. و امرأته مرفوعة كأنها مبتدأ جديد في
الجملة امرأته حمالة الحطب.. و الفاعل مستتر عايد على (أبو لهب) مُشعِل الفتنة.. و
مع وجود مشعلي الفتن في كل مكان و زمان.. إلا أنه يجب علينا أن نعلم أن الله ليس
بغافل عن عباده.. لهذا تلت هذه السورة سورة الإخلاص.