يَأْجُوجَ وَ مَأْجُوجَ

{وَ يَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَ آتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَ وَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَ إِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86) قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87) وَ أَمَّا مَنْ آمَنَ وَ عَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَ سَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (90) كَذَلِكَ وَ قَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93) قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَ مَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَ بَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ رَدْمًا (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96) فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَ مَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97) قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَ كَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98) وَ تَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا} الكهف : 83 – 99

يَسْأَلُونَكَ..  في الأثر عن ابنِ عباسٍ رضيَ اللهُ عنهمَا أنَّ مُشْرِكِي قريشٍ بعثوا النَّضْرَ بنَ الحارثِ، و عقْبَةَ بنَ أبي مُعَيْطٍ إلى أحبَارِ اليهودِ بالمدينةِ فقالوا لهُمْ : سَلُوهُمْ عن أَمْرِهِ و أَخْبِروهم خَبَرَهُ و صِفُوا لهم مَقَالَتَه، فإنهم أهلُ الكتابِ الأولِّ ، و عندَهُمْ علْمٌ ما ليسَ عندنَا من علمِ الأنبياءِ، فقَدِمَا المدينةَ فسألا أحبارَ اليهودِ عنهُ، و أخبرُوهم بمَا يقولُ، فقالوا لهُم : سَلُوهُ عن ثلاثٍ فإنْ أخْبَرَكُم بهنَّ فهوَ نبيٌّ مرسَلٌ، و إلا فهوَ رجلٌ مُتَقَوِّلٌ، سلُوهُ عن فِتْيَةٍ ذهبوا في الدهْرِ الأوَّلِ ما كانَ من أمرِهِم ؟ فإنَّهُم كانَ لهمْ حديثٌ عجِيبٌ ، و سلُوهُ عن رجلٍ طوَّافٍ طافَ مشارِقَ الأرضِ و مغارِبَها ما كان نَبَؤُهُ ؟ و سلُوهُ عن الرُّوحِ ما هُوَ ؟ …الحديث، الشاهد هنا “عن رجلٍ طوَّافٍ طافَ مشارِقَ الأرضِ و مغارِبَها”، نستنتج إنّ صاحب القصة (ذِي الْقَرْنَيْنِ) رجلٌ طواف، أي رحّالة.

ذِي الْقَرْنَيْنِ.. بما أن هذا الرّحالة طاف مشارق الأرض و مغاربها.. أيْ وصل إلى المشرق و المغرب.. فمن دقيق الملاحظة أن الأرض كروية الشكل، في أقصها الشمالي يوجد القطب الشمالي، و عند الوصول إلى هذه النقطة يتلاشى الشرق و الغرب، و إذا كنت على نقطة (القطب الشمالي) مباشرة.. سيكون الجنوب محيط بك من كل جهة.. و عند الخروج من نقطة القطب الشمالي يبدأ يظهر الشرق و الغرب تدريجياً.. فعند الخروج مسافة 0.5 كم من المركز يتكون حولك دائرة محيطها 3.14 كم، فتكون أقصى مسافة بين الشرق و الغرب هي (3.14 كم) فقط (انظر الشكل التوضيحي).

و دليلٌ على أن ذِي الْقَرْنَيْنِ رحلة، أن استخدم الكتاب الكريم في وصف هذه الرحلة اتبع.. بلغ.. اتبع..  بلغ.. اتبع.. بلغ.. في قوله تعالى {.. وَ آتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ …(88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ ..(91) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ …} الكهف : 83 – 99.

إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ.. و التمكين في الأرض قد يكون بالعلم {…وَ كَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَ لِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ …} يوسف : 21، أو السلطة {وَ كَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ …} يوسف : 56، أو في الرزق {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَ أَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَ جَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ …} الأنعام : 6، أو في القدرات {وَ لَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَ جَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَ أَبْصَارًا وَ أَفْئِدَةً …} الأحقاف : 26.

وَ آتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا.. و السبب هنا هو معرفة الطرق و وسائل النقل و علوم الفلك التي استخدمها في رحلته للبحث عن القصدير (كما سنرى في البحث المقدم من الدكتور/ أسامة عبدالرؤف الشاذلي في كتابه: يأجوج و مأجوج.. و الذي حلل فيه بدقة بارعة جميع الأحاديث الواردة عن قصة ذي القرنين و يأجوج و مأجوج – و التي جزء منه من هذا البحث بتصرف).

حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَ وَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَ إِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا.. و من هنا تبدأ قصة بيثياس المرسيلي (ذِي الْقَرْنَيْنِ) الذي انطلق من مرسيليا (أو مارسيليا أو مشيلية) و هي المدينة الثانية كُبرًا في فرنسا بعد العاصمة باريس.. و بمعرفة الظروف السياسية في تلك الحقبة التاريخية، سنتعرف على الأسباب التي أدت إلى قيام ذِي الْقَرْنَيْنِ بتلك الرحلة، و تذكر أغلب كتب التاريخ أن من أسّس هذه المدينة (مارسيليا ) هم قبائل بدائية كانت تعيش على تلك السواحل قبل أن يحتلها التـرك الإغريق أو (الفوقيين) «phocaeans القادمين من مدينة «فوقيه» التركية عام 600 ق. م. و قد أطلق عليها قديماً اسم «ماساليا» (Massalia)، و التي تعني في لغة الفوقيين (حامي المكان) نظرًا لأنها تقع في ثغر بين جبلين، مما يجعلها خليجًا محصنًا طبيعيًا من هجمات البحر، و بالأخص الهجمات القادمة من عدوهم اللدود على الجانب الآخر من المتوسط، في إمارة قرطاج التي يحكمها الفينيقيون.

خلال القرن الخامس قبل الميلاد تزايدت الهجرات من الشرق إلى مارسيليا، بسبب اجتياح الفرس لبلاد الشام و مصر و آسيا الوسطى.. و كان الوصول إلى مارسيليا متيسرًا عن طريق البحر أو عن طريق البـر، و بحلول القرن الرابع قبل الميلاد، أصبحت مارسيليا مدينة عالمية، تضم أعراقاً مختلفة من ترك، و إغريق، و شرقيين، و قبائل الكِلت (البربرية) القادمة من الشمال.. و ازدهرت تجاريًا في عصر فيليب المقدوني، و بلغت أكثر ازدهاراً لها في عصر الإسكندر الأكبر.

كان الفينيقيون ملوك البحر بلا منازع، و قد أسسوا حضارة عظيمة على سواحل البحر المتوسط استمرت لقرون، و بفضل براعتهم البحرية بنى الفينيقيون الكثير من المستعمرات و الموانئ على سواحل البحر الأبيض المتوسط، و من أشهر تلك المستعمرات عكا و رودس و صور و الجبيل و صقلية و مالطا و قرطاج و ترشيش بإسبانيا، كما عبروا مضيق جبل طارق الذي كان يسمى مضيق (جبل كالبي)، و أبحروا في المحيط الأطلسي، الذي كان يسمى بـ(بحر الظلمات)، و وصلوا إلى سواحل إفريقيا و شبه جزيرة كورنويل في بريطانيا.

و في منتصف القرن الرابع قبل الميلاد، أيْ قبل الزمن الذي وقعت فيه أحداث رحلة بيثياس (ذو القرنين)، كان التاريخ قد انحسر عن دولة فينيقيا الأم في الشرق بعد أن اكتسحها الفرس، و لم يتبق من هذه الإمبراطورية العظيمة سوى مدينة قرطاج، التي استطاعت أن تمد نفوذها على بلاد المغرب العربي و إسبانيا لتؤسس لنفسها إمارة جديدة في البحر المتوسط، عُرفت باسم إمارة قرطاج.

كان القرطاجيون يسيطرون على سُبل التجارة في البحر المتوسط، الأمر الذي أزعج اليونانيين بشدّة، و لا سيما و أن ذلك العصر كان عصر الفتوحات و التوسعات بالنسبة للإغريق، و حدثت مصادمات لم يتمكن فيها الإغريق من التغلب على أسطول القرطاجيين الضخم و الأكثر تطورًا، كما لم يتمكنوا من إخضاع أيّ من الموانئ التابعة لهم، و كان رد القرطاجيين في كل مرة هو فرض المزيد من الأسعار و الضرائب على المنتجات التي يصدرونها إلى أوروبا، و كان المنتج الأكثر تأثيرًا على الصناعة في أوروبا آنذاك هو معدن «القصدير».

كان القصدير أحد المعادن الأساسية في تصنيع السبائك، و التي تدخل بدورها في تصنيع الدروع و السيوف و العملات و التماثيل و غيرها… و على عكس باقي المعادن، فلم تكن مناجم القصدير معلومة لدى الإغريق، فكل ما يعرفونه هو أن القرطاجيين، الذين يحتكرون تجارته، يأتون به من مكانٍ ما.. غرب مضيق جبل طارق (جبل كالبي)، و قد أدى احتكار القرطاجيين لتجارة القصدير إلى ارتفاع سعره بجنون في الأسواق الأوروبية، فاجتمع تجار أوروبا في مارسليا و قرروا أن يضعوا حدًا لهذا الاحتكار، و جاء القرار بأن يشترك الجميع في تمويل حملة بحرية ضخمة لتصل إلى مناجم القصدير في بحر الظلمات، ثم تعود به إلى أوروبا.

و كان الاختيار أن يتم الاستعانة بأكبر عالم في الفلك و الجغرافيا و الملاحة آنذاك، ليقود هذه الحملة، و بالطبع كان هذا العالم هو “بيثياس المارسيلي“، و بعد أن وافق على أن يقوم بتلك الرحلة إلى أرض القصدير، بدأ الإعداد لرحلته بحسابه لموقع مارسيليا على خطوط الطول و العرض، و استخدم في ذلك المزولة الشمسية و حساب زاوية الظل لتحديد نقطة البداية لرحلته، و التي ستكون نقطة العودة مرة أخرى بعد انتهاء الرحلة، و اختار النجم القطبي الأصغر ليكون دليله في هذه الرحلة المغادرة و العودة، و تحديد مسار السفر على غرار الأجهزة الملاحية الحديثة، و  نظن أن لا أحدا قد سبقه إلى مثل هذا الإنجاز.. وَ آتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا.

 

·     الجزء الأول من الرحلة الاتجاه من مارسيليا إلى “كيب فينيستر”، فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85) و عندما وصل إلى الساحل بدأ في تجهيـز المراكب التي سيتحركون بها، و قد كانت عِدة سفن متوسطة الحجم.. حيث إن الحملة كانت في طريقها لجلب القصدير.

·     حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ.. و في بحثه عن مناجم القصدير، علِم من خلال قبائل البرابرة أنّ الشمس تغرب في عين بركانية ضخمة، و “أن هذا المكان الذي ترقّد فيه الشمس”، و تتضاءل في المكان ساعات الليل حتى تصل إلى ساعتين أو ثلاثة فقط، في إشارة إلى أنّ هذا المكان يقع في الشمال، و هذا المكان الآن يقع بين (السويد و إستونيا) و اسمه “فوهة كالي”.

 

 

و ستجد في الويكيبديا أن (Kaali crater) تحتوي على 9 فوهات بركانية كان الناس يعتقدون إن الشمس تغييب في هذه الفوهات.

وَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَ إِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا.. و حيث لم يكن الحصول على المعلومات منهم بهذه السهولة، فكان لا بد من إرغام هؤلاء القوم لتقديم معلومات أكثـر عن مناجم القصدير.. و هذا الخطاب وحي إلهام من الخالق U لذي القرنين (مثلما أوحى الله لأم موسى و مريم و غيـرهم).. فخاطب ذو القرنين فريقه و قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا .. وَ أَمَّا مَنْ آمَنَ وَ عَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَ سَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا .. يتبين من هذا الخطاب أنه موجه لفريقه من خلال قوله ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ.

·        ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89).. فشقّ طريقه إلى القطب الشمالي…

حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا.. مطلع الشمس غيـر موضع شروق الشمس، و الدليل على ذلك أن رحلة ذي القرنين الأولى إلى الغرب قال عنها المولى U: حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ، فلو كانت هذه الرحلة إلى الشرق، لكان الأولى أن توصف بمشرق الشمس بدلاً من “مطلع الشمس”، فكلمة «مطلع» تعني الموضع الذي تطلع عليه الشمس و ليس منه، أيْ أنه قد ذهب إلى موضع تطلع عليه الشمس بصورة شبه دائمة، مكان لا يوجد فيه شروق و غروب، و تعاقب لليل و النهار في هيئتهما المعتادة، بل تظل الشمس فيه طالعةً لا يحجبها ليلٌ أو «ستر» عن الأرض، و قد أشار الشيخ محمد متولي الشعراوي إلى هذا المعنى فقال – رحمه الله – : و بعض المفسرين يرون أن ذا القرنين ذهب إلى موضع يومه ثلاثة أشهر ، أو نهاره ستة أشهر، فصادف وصوله وجود الشمس، فلم ير لها غروباً في هذا المكان طيلة وجوده به، و لم ير ستراً يسترها عنهم».

إن مثل هذا الاختلاف في تعاقب الليل و النهار نجده عند الدائرة القطبية الشمالية أو الجنوبية، ففي يوم الانقلاب الصيفي مثلا يكون طول النهار:

          12 ساعة عند خط الاستواء

          ساعة عند خط عرض 40 شمالاً

          20 ساعة عند خط عرض 63 درجة

          24 ساعة عند الدائرة القطبية تماماً

أيْ يكون هذا اليوم كله نهارًا، ثم يتزايد عدد الأيام التي تكون كلها نهارًا حتى تصل إلى:

          1 شهر كامل عند خط عرض 67

          4 أشهر عند خط عرض 68

          6 أشهر عند مركز القطب الشمالي

حيث يكون القطب الشمالي في أقرب وضع له إلى الشمس، و يدور هو و المنطقة المحيطة به باستمرار في ضوء الشمس، بينما يكون القطب الجنوبي في أبعد وضع له عن الشمس.

الدائرة القطبية الشمالية، تبدأ عند خط عرض 66.33 شمال خط الاستواء، و اليابسة تنتشر على الأطراف – حيث درجة الحرارة الأقل، في حين يتمركز المحيط القطبي الشمالي في المنتصف، و يساعد وجود المحيط القطبي في المنتصف على تخفيف شدة البـرودة في المنطقة القطبية الشمالية، حيث إنه من المعروف أن المياه تحتفظ بالحرارة لفتـرات أطول من اليابسة، لذا فإن القطب الشمالي أخف برودة من القطب الجنوبي، و تتـراوح الحرارة فيه ما بين -40 درجة في فصل الشتاء، و -10 درجات في فصل الصيف، و تعود حفريات الإنسان التي وُجدت في المكان إلى أكثر من 2500 ق.م. (الصورة أعلاه و أدناه من قوقل إرث، و القطب الشمالي متجمد في الأصل و لكن للتوضيح فقط يظهر باللون الأزرق).

كَذَلِكَ وَ قَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا.. يبين الحق U بعلمه بما لدى ذو القرنين من توحيد و إيمان، بالإضافة إلى ما وهبه من ملكات و معارف علمية، و هنا يجتاز القطب الشمالي ليصل إلى الجهة المقابلة من الكرة الأرضية.

ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا.. و مازال ذو القرنين و بعد أن وصل إلى القطب الشمالي (أو قاربه) يبحث عن الطرق و الممرات البحرية حوله.

·        حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا.. فوصل إلى منطقة تقع بين سيبيريا و ألاسكا.

السَّدَّيْنِ .. و بالفعل هذا ما وصل إليه الرحالة ذو القرنين عندما وصل (مَضِيقُ بَيْرِينغ (بالإنكليزية Bering Strait؛ و بالروسية (Берингов пролив)  و هو مضيق يفصل بين قارة آسيا و قارة أمريكا الشمالية، تحديداً بين «رأس دزنوف» في سيبيريا، و «رأس أميـر ويلز» في ألاسكا، و هو يقع بين المحيط الهادئ و المحيط المتجمد الشمالي، و يصل ما بين بحر بيرين جنوباً و المحيط المتجمد الشمالي شمالًا.

مَضِيقُ بَيْرِينغ.. يبلغ عرض أضيق مقطع في المضيق 92 كم، و يصل عمقه إلى حوالي 90 متـر، و فيه الجزر المعترضة “ديوميد الصغيرة “ و “ديوميد الكبيرة ” (السَّدَّيْنِ و يعيش على جانبي المضيق السكان الأصليون من القبائل القديمة كالإسكيمو و الشوكشي، و الكورياك، و تعمل هذه القبائل في صيد البحر و الاتّجار بجلود الحيوانات النادرة التي تكثر في تلك المناطق.

كان هذا المضيق موضوع النظرية العلمية القائلة بأن الناس هاجروا من آسيا إلى أمريكا الشمالية عبره، من خلال جسرٍ بريٍّ يُعرف باسم «بيرينجيا»، و كانت هذه النظرة لكيفية دخول هنود باليو إلى أمريكا و ما زالتِ الأكثرَ قبولاً.

هذه جزيرة “ديوميد الصغيرة ( تابعة للولايات المتحدة، إلى اليسار – الغرب)، و جزيرة “ديوميد الكبيـرة” (تابعة لروسيا، إلى اليمين – الشرق)، و تبلغ المسافة بين الجزيرتين أقل من 4 كيلومتراتٍ فقط،و هذه الصورة من زاوية الرؤية من جهة الشمال “المحيط المتجمد الشمالي” باتجاه الجنوب (المحيط الهادئ).

الآن.. عند وضع خريطة العالم على شكل لوحة مستوية فسيظهر  (مَضِيقُ بَيْرِينغ( على جانبي الخريطة القرن الأول من جهة الشرق و القرن الثاني من جهة الغرب، لهذا أطلق اسم (ذو القرنين) على الرحالة (بيثياس المرسيلي Pytheas of Massalia) الذي وصل لهذه المنطقة قبل الميلاد بـ 300 سنة.

و يسكن هذا المكان قوم (لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا) و هذه ترجمة لكلمة (إسكيمو).. و حرفياً معناها (الناطقين بلغة غريبة)، فاللغات التي تنتمي إلى عائلة لغة «إسكيمو – إليوت» و التي تشمل لغات قبائل الإسكيمو، و بعض القبائل الهندية التي تسكن في شمال كندا و ألاسكا، و تشمل هذه اللغات اختلافًا قليلاً حسب المنطقة الجغرافية، حتى أن المتحدثين بلغة الإسكيمو يصعب عليهم التفاهم و التواصل مع بعضهم البعض، يُقدَّر عدد المتحدثين بلغات الإسكيمو – إليوت حاليًا، مئة ألف نسمة فقط، موزعون في جرينلاند و شمال كندا و ألاسكا و سيبيريا، و تتميز لغة الإسكيمو ببعض الأمور التي تجعلهم مختلفين عن اللغات الأخرى مثل:

·     لا توجد علاقة أو صلة بين هذه العائلة اللغوية و عائلة أخرى في العالم، على الرغم من أن قبيلة الإسكيمو تعود إلى آلاف السنين قبل الميلاد، إلا أن لغة الإسكيمو كانت مطوية فقط، و لم تصبح مكتوبة إلا منذ بداية القرن الثامن عشر الميلادي.

·     لغة الإسكيمو تستخدم الكثيـر من اللواحق، و تخلو من السوابق “البادئات و الكلمات المركبة”، كما تضاف اللواحق بصورة مبالغ فيها عن أي لغة أخرى، لدرجة أنه يمكن اختزال جملة مكونة من عدة كلمات في مقطع واحد، يعني صوت إضافي على كلمةٍ ما يعبـّر عن معنى الجملة كلها، و من الطرائف المشهورة عن لغة الإسكيمو، أنّ كلمة «جليد» أو «ثلج» يمكن أن يشتق منها ألف كلمة بإضافة لواحق عليها تعطيها معاني مختلفة.

·     أسماء الإشارة (هذا هذه، تلك ….) تُسْتَخْدَم في صيغ مختلفة و متعددة، و تصل صيغ الإشارة في لغة الإسكيمو إلى ثلاثين صيغة إشارة، مقارنة بأربع صيغ للإشارة فقط في اللغة الإنجليزية (هذا، ذلك، هؤلاء، أولئك).

قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَ مَأْجُوجَ.. و عندما قابل ذو القرنين الإسكيمو.. قدموا له شكواهم من (يَأْجُوجَ وَ مَأْجُوجَ) .. أَيْ الَّذِي يُؤَجِّجُ بَعْضَهُمْ بَعْضاً، فَسَّرَ القُرْآنُ الكَرِيمُ يَأْجُوجَ وَ مَأْجُوجَ بِالتَّعْرِيبِ فِي قَوْلِهِ U {وَ تَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا}  الكهف: ٩٩، و المَوْجُ عَلَى المصْدَريّة مِنْ مَاجَ يَمُوجُ مَوْجًا و هُو مِنْ الاِخْتِلاطِ و الاِضْطِرَابِ فَهُو تَفْسِيرٌ بِالتَّصْوِيرِ كَمَا قَالَ U {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَ مَأْجُوجُ وَ هُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ}  الأنبياء: ٩٦، كِنَايَةً عَنْ الاِخْتِلاطِ و الاِضْطِرَابِ و الفَسَادِ {قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَ مَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَ بَيْنَهُمْ سَدًّا}  الكهف: ٩٤، فَهُمْ يُؤَجِّجُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، و يَسْتَفِزُّ بَعْضَهُمْ بَعْضًا، و يُمَوَّجُ بَعْضَهُمْ فِي بَعْضِ.

و المعنى اللغوي لكلمتي (يَأْجُوجَ وَ مَأْجُوجَ)، جاء في لسان العرب أنهما إسمان أعجميان بدليل منعهما من الصرف، و قيل إنهما مشتقان، من مصدر واحد و هو المصدر “أجج” كالتالي:

·     “أجّج” بمعنى أشعل.. (أجج النار) أيْ أشعلها، و يشتق منها كلمات مثل “أجيج” بمعنى لهيب النار، أو صوت النار ، و “أجوج” بمعنى مضيء أو برّاق.

·        يأجوج على وزن يفعول أو فاعول.. تعني شيء شديد التأجج أو الاشتعال.

·     “أجّ الماء” بمعنى اشتدت ملوحته أو حرارته، و منها الماء الأجاج {وَ مَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَ هَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ …} فاطر : 12.

·        “أجيج الماء” هو صوت انصبابه و (مأجوج) على وزن مفعول، تعني الماء و قد اشتدت ملوحته أو حرارته.

·        “أجّ” بمعنى أسرع أو هرول فيقال “أج في سيره” إذا هرول، و “الأج” هو الاندفاع في سرعة.

و إذا قلنا بأعجمية (يَأْجُوجَ وَ مَأْجُوجَ) بدليل منعهما من الصرف، فالذكاء الاصطناعي يقدم لنا الناطقين بهاذين الاسمين كالتالي:

بناءً على بحثك عن لغة شمالية تربط بين “الفيضان-البركان” و بنطق قريب من “يأجوج-مأجوج”، فإن لغة السامي الشمالية (Northern Sámi) هي الأقرب لهذا الغرض، مع تفسير دقيق كالتالي:

 اللغة الأقرب: السامي الشمالية (Sámegiella)

1.       التشابه الصوتي و المعنوي:

·        Jáhkká” (يا-ه-كا / ˈjaːh.kaː/)  تعني: “الفيضان المفاجئ” أو “الطوفان” (من الجذر jáhká المرتبط بالمياه الجارفة).

·        Golbma” (غول-بما / ˈɡol.bma/)  تعني: “النار الأرضية” أو “البركان” (في السياقات الأسطورية). 

·        عند دمج الكلمتين: “Jáhkká-Golbma” (ياهكا-غولبما) تشبه نطق “يأجوج-مأجوج” مع قلب المقاطع.

2.       الأساس الأسطوري في تراث السامي، يُعتقد أن:

·        Jáhkká” تمثل قوى المياه المدمرة (ذوبان الجليد السريع أو الأمطار الغزيرة).

·        Golbma” ترتبط بغضب الأرض (البراكين أو الحرائق الكبرى).

·        يظهر الثنائي في أسطورة “صراع العناصر” حيث تتصادم قوى الماء و النار.

3.       الموقع الجغرافي:

·        تُستخدم هذه اللغة في شمال النرويج و السويد و فنلندا وشبه جزيرة كولا الروسية، و هي مناطق تشهد:

§        نشاطًا بركانيًا قديمًا (خاصةً في مناطق مثل مورمانسك).

§        فيضانات عنيفة بسبب ذوبان الجليد.

لماذا السامي بالتحديد؟

1.       التشابه الصوتي: 

·        Jáhkká” (ياهكا) ≈ “يأجوج” (Ya’juj). 

·        Golbma” (غولبما) ≈ “مأجوج” (Ma’juj) مع قلب الحروف. 

2.       السياق الجغرافي: 

·        مناطق السامي تضم أنهارًا جليدية و أنشطة جيولوجية عنيفة، مما يعزز الربط.

إن كنت تبحث عن بديل أكثر دقة في لهجة السامي الإنارية (Inari Sámi):

·        Čáhci” (تشاه-تسي = فيضان) + “Tullâ” (تولّا = نار بركانية). 

·        النطق المجمع: “Čáhci-Tullâ أقرب لـ “جوج-ماجوج”.

الخلاصة النهائية، أقرب لغة شمالية توفّر نطقًا مشابهًا لـ “يأجوج-مأجوج” بمعنى “الفيضان-البركان”، هي لغة السامي الشمالية (Jáhkká-Golbma)، أو لهجة الإنارية (Čáhci-Tullâ) كبديل أدق. 

بناءً على هذا المعنى فإن (يَأْجُوجَ وَ مَأْجُوجَ) هما شيئان.. أحدهما شديد الحرارة و الاشتعال، أي (يَأْجُوجَ)، و الثاني ماء مالح، أي (مَأْجُوجَ)… و كلاهما يشتركان في الاندفاع و المباغتة و السرعة، و هذه الأوصاف لا تنطبق إلا على شيئين «البراكين» و «الفيضانات» (التسونامي).

و على هذا، فإن محنة يأجوج و مأجوج الكبـرى، التي ستقع في آخر الزمان، ما هي إلا كارثة كونية عظيمة سينفجر فيها عدد كبير من البراكين في آن واحد، و سيصحبها موجات عاتية من فيضانات البحار و المحيطات (تسونامي).

و حريّ بمثل هاتين المحنتين أن يفزع لهما رسول الله e فيقول: «ويلٌ للعرب من شرّ قد اقترب»، و حريّ بهما أن يصفهما الله لعيسى بن مريم u فيقول: «إني قد أخرجت عباداً لي لا يدان لأحد بقتالهم». و حريّ بهما أن يوصفا بأنهم مفسدون في الأرض، فأيّ شيء أكبر إهلاكاً للزرع و النسل من هذين الشيئين.

و كلمتي « يَأْجُوجَ وَ مَأْجُوجَ » إعجاز لفظي بليغ، فالكلمتان تتقاربان في الاشتقاق اللفظي، رغم أنهما تحملان معنيين مختلفين، و مدلولا الكلمتين يتقاربان في التأثير التدميري، و كذلك يتقاربان في صفة السرعة و المباغتة.

ارتباط يَأْجُوجَ وَ مَأْجُوجَ لفظاً في القرآن، و في كل ما ورد من أحاديث عن رسول الله e فيه إعجاز أيضًا، فمن المعروف أن البـراكين و فيضانات البحار و المحيطات المرتبطة.. يرتبطان ارتباطًا وثيقًا من الناحية الجيولوجية و المناخية، و قلما يحدث بركان من البـراكين الكبـرى دونما يتبعه أعاصير و فيضانات شديدة، بل إن البراكين في المناطق القطبية المتجمدة تكون مصحوبة بفيضان ناتج عن الذوبان الجليدي.. فيما يعرف باسم «الفيضان البركاني»، فيأتي شديد التأجج و الاشتعال (اليأجوج) مصحوبًا ببقية فيضان الماء الناتج من ذوبان الجليد (المأجوج)، فيهبطان في سرعة شديدة من فوق الجبال الجليدية، و يدمران مساحات شاسعة من البلدان و القارات.

مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ.. الإفساد يفعله الإنسان و الحيوان و الجماد و الأشياء المجردة.. فنقول: «أفسد الفراغ الشباب» «أفسد الملح الطعام» «أفسدت الريح الزرع» و «المُفسد» هو المهلك. و كلمة «مفسدون» جمع مذكر سالم، يجوز جمع غيـر العاقل بجمع المذكر السالم كما ورد في الكتاب الكريم {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} يوسف : 4، {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَ لَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} يس : 40.

فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَ بَيْنَهُمْ سَدًّا.. و طلب الإسكيمو من ذي القرنين أن يوقف هذا الفساد ببناء سدّ بينهم (لو كان العدو من الإنسان أو الحيوان لطلبوا منه التخلص منهم).. لكنهم طلبوا بناء سدّ بحيث لا تعلوه الفيضانات و لا تنقبه الحمم.

قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ رَدْمًا.. و هكذا عادة الصالحين، الاعتـراف أولاً بفضل الله عليهم، ثم طلب العون من الناس في بناء ردم ليمنع هذا الفساد، و الفرق بين السد الذي هو (ما يسد به) كل حاجز بين شيئين.. بينما الردم (ما تردم به) أن تجعل شيء بعضه على بعض، كأن تردم حفرة أو شقّ أو فوهة.

آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ.. الحديد (Fe)  درجة انصهاره عالية (~1538°م)، صلب و قوي، لكنه عرضة للصدأ.

سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ.. الصدف هو الغشاء أو القشرة، و صدفة اللؤلؤة هي محاراتها و قشرتها، و هذا المعنى يتماشى مع جانبي (الأخاديد)، فجانبي الأخدود مكونة من قشرة صلدة ملساء من البيرو كلاستيكس (Pyroclastics) أو الصخور البركانية الفتاتية، و هذا مصطلح جيولوجي يشير إلى الشظايا الصخرية و الرماد و الحطام و الأشياء الأخرى التي تنطلق من البراكين أثناء الثوران، و على هذا يكون ذو القرنين قد ساوى بالردم بين جانبي الأخدود ثم استخدم منافيخ الحداد لتأجيج النار و رفع درجة حرارتها اللازمة لصهر الحديد و تشكيله، و ليذيب الحديد ثم يفرغ عليه القصدير، و رغم عبقرية الفكرة إلا أنها قابلة للتطبيق عملياً، حتى و إن كانت بإمكانات محدودة في عصر ذي القرنين.

قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا.. القصدير (Sn) درجة انصهاره منخفضة (~232°م)، مقاوم للتآكل، و يساعد في تحسين مقاومة الحديد للصدأ، و طريقة صنع السبيكة (تقليديًّا)، بالمواد المطلوبة… و هي قطع حديدية (خردة أو زُبَر حديد)، و قصدير نقي، و فرن بدائي (مثل فرن الفحم أو الخشب مع منفاخ هواء)، و بوتقة (وعاء مقاوم للحرارة)، فيتم تذويب الحديد، حيث توضع قطع الحديد في الفرن مع كميات كبيرة من الفحم أو الخشب، و يُستخدم منفاخ لرفع درجة الحرارة إلى ~1200-1500°م (لتحويل الحديد إلى حالة شبه منصهرة)، ثم يتم صهر القصدير، حيث يُذاب القصدير في بوتقة منفصلة (لأنه ينصهر بسهولة عند ~232°م)، ثم يتم خلط المعدنين، حيث يُسكب الحديد المنصهر أولاً في القالب (بين “الصدفين” في قصة ذي القرنين)، و يُصب القصدير المنصهر فوقه أو يُمزج معه أثناء التبريد. 

التبريد و التصلب.. بعد أن تتفاعل السبيكة لتكوين مركبات مثل “الحديد القصدي” (FeSn)، مما يعطيها صلابة و مقاومة للصدأ، إذاً سبيكة “حديد + قصدير” (مثل البرونز الحديدي)، خصائصها أنها، أكثر مقاومة للتآكل من الحديد الخام، أقل هشاشة من الحديد الصلب، و كانت تُستخدم في صناعة الأدوات و الأسلحة آنذاك.

قِطْرًا ..  هو القصدير.. فلا يمكن أن يكون نحاساً لأن الله ذكر النحاس صراحة في قوله تعالى    {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَ نُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ} الرحمن : 35، و لا يمكن أن يكون الحديد لقوله تعالى {قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا} الإسراء : 50 ،  و لا يمك أن يكون ذهب أو فضة {.. الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} آل عمران : 14، و حيث كانت رحلة ذو القرنين الأساسية هي التنقيب عن القصدير (قِطْرًا).

و للقصدير تاريخ عريق و متنوع، بدأ استخراجه و استخدامه خلال العصر البرونزي حوالي عام 3000 قبل الميلاد (حتى عصر ذي القرنين)، عندما اكتشف الحرفيون الأوائل إمكانية إنتاج البرونز – و هو معدن غيـر قابل للتآكل، شديد الصلابة و القوة، مما سمح باستخدامه في صناعة الرماح و السيوف و السهام و غيرها من الأشياء المهمة آنذاك – عن طريق صهر القصدير مع النحاس. يُعد القصدير أيضًا المكون الأساسي للبيوتر، و منذ زمن بعيد، ساد اعتقاد بأن كميات ضئيلة من القصدير تساعد على الوقاية من التعب و الاكتئاب، و أن شرب الماء من أكواب القصدير يمكن أن يساعد في علاج هذه الأمراض، كما حظيت الألعاب المصنوعة من القصدير، و العلب المطلية بالقصدير، و أسقف المنازل المصنوعة من القصدير بشعبية كبيرة في الماضي.

أصول القصدير مفقودة في العصور القديمة، فقد استخدم الإنسان البرونز، و هو سبائك من النحاس و القصدير، في عصور ما قبل التاريخ.. قبل عزل معدن القصدير النقي بوقت طويل، فقد كان البرونز شائعًا في بلاد ما بين النهرين المبكرة، وادي السند، مصر، كريت، فلسطين، بيرو و يبدو أن معظم القصدير الذي استخدمته شعوب البحر الأبيض المتوسط الأوائل جاء من جزر سيلي و كورنوال في الجزر البريطانية، حيث يعود تاريخ تعدين القصدير إلى ما لا يقل عن 300-200 قبل الميلاد، رمزه Sn هو اختصار للكلمة اللاتينية التي تعني القصديرstannum .

فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَ مَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا.. تدل الآية على أمرين؛ الطبيعة الفيضانية ليأجوج و مأجوج في قوله: يَظْهَرُوهُ، أي يفيضوا فوق الردم، و الطبيعة الخارقة أو الحارقة ليأجوج و مأجوج في قوله : نَقْبًا (أي خرقاً)، و الردم الذي بُني بالمواصفات التي وردت في الآيات الكريمة له القدرة على تحمل هاتين الطبيعتين.

و الخلاصة أنه صنع ردمًا من سبيكة صلدة من الحديد و القصدير، غطّى بها أخدودًا بركانيًا كان مصدرًا لتهديد هؤلاء القوم، و قد يكون هذا الردم مطمورًا تحت أطنان من الثلج الآن، و لهذا لم يستطع أحد من الباحثين العثور على موقع هذا الردم حتى هذه اللحظة، أو أن الردم انهدم و زال حيث إن عمره تجاوز 2300 سنة ميلادية.

و قد تكون و أهمية هذا الردم بأنه يمنع دخول المياه الدافئة إلى المحيط المتجمد الشمالي و الذي قد يتسبب في ذوبان الثلوج كما يظهر في الخارطة المجاورة.. و الحد الأدنى للجليد البحري (الخط الأصفر عام 1979 – الأخضر عام 2005 – الأحمر عام 2007).

و إلى هذه السنة كما يتضح من بيانات (ناسا) إن الجليد في القطب الشمالي مستمر بالانحسار، و لهذا تداعيات كبيرة على الكرة الأرضية.

إن انحسار الجليد في القطب الشمالي بسبب تغير المناخ له عواقب واسعة النطاق على البيئة والمناخ و النظم البيئية و الإنسان حول العالم، إليك أبرز الآثار المترتبة على ذلك:

1.      ارتفاع مستوى سطح البحر:

·     ذوبان الجليد الأرضي في جرينلاند و الأنهار الجليدية يساهم في زيادة مستوى المحيطات، مما يهدد المناطق الساحلية و الجزر المنخفضة بالفيضانات و التآكل.

2.      تغير أنماط المناخ العالمي:

·        يؤثر اختلاف درجة حرارة القطب الشمالي على التيارات النفاثة (التيارات الهوائية العليا)، مما قد يتسبب في:

§        ظواهر جوية متطرفة (مثل موجات الحر أو البرد المفاجئة).

§        تغيرات في هطول الأمطار و العواصف في مناطق مختلفة.

3.      اضطراب النظم البيئية:

·        تهديد حياة الحيوانات القطبية مثل الدببة القطبية و الفقمات التي تعتمد على الجليد للصيد و التكاثر.

·        تغير سلوك الهجرة للطيور و الحيوانات الأخرى.

·        انتشار أنواع غازية في المناطق القطبية بسبب ارتفاع الحرارة.

4.      إطلاق غازات الدفيئة:

·     ذوبان الجليد الدائم (البرمافروست) يُطلق كميات هائلة من الميثان و ثاني أكسيد الكربون المخزنة فيه، مما يُسرع ظاهرة الاحتباس الحراري.

5.      فتح طرق ملاحية جديدة:

·     تقلص الجليد يفتح ممرات بحرية مثل الممر الشمالي الغربي، مما يزيد النشاط الإنساني (مثل الشحن و التنقيب عن النفط)، لكنه يحمل أخطار:

§        التلوث النفطي.

§        تهديد المجتمعات الأصلية وثقافاتها.

6.      تأثيرات اقتصادية:

·        فرص جديدة لاستخراج الموارد (النفط، الغاز، المعادن) بسبب ذوبان الجليد.

·        أخطار على صناعات الصيد بسبب تغير موائل الأسماك.

7.      تأثيرات جيوسياسية:

·     تنافس دولي على السيطرة على الموارد و الطرق البحرية في القطب الشمالي (مثل روسيا، الولايات المتحدة، كندا، الدول الإسكندنافية).

8.      تسارع الاحترار العالمي:

·     الجليد الأبيض يعكس أشعة الشمس (ظاهرة البياض)، لكن ذوبانه يكشف المحيط الداكن الذي يمتص الحرارة، مما يزيد تسخين الأرض.

 الخلاصة: انحسار الجليد القطبي ليس مشكلة محلية، بل له تداعيات عالمية تهدد التوازن البيئي و المناخي، مما يتطلب تعاونًا دوليًا عاجلًا لخفض انبعاثات الكربون و حماية هذه المنطقة الحيوية. مع العلم أن بحر بيرنغ يحتوي على 16 واديًا بحريًا و يمثل أكبر وادٍ بحري في العالم لتدفق الماء من المحيط الهادي إلى المحيط المتجمد الشمالي.

قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَ كَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا.. الحمد لله.

وَ تَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا.. (انظر سورة التكوير).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Shopping Cart