يَكْشِفُ لَنَا الْقُرْآَنُ الْكَرِيْمُ عَنْ الْعَادَاتِ و الْتَقَالِيْدِ.. امْرَأَةُ الْعَزِيْزِ أَعْطَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْنِّسَاءِ سِكِّيْناً، و هَذَا يَعْنـِيْ أَنَّ الْنِّسَاءَ يَعْرِفَنْ الْهَدْفَ مِنْ تَوْزِيعِ الْسَّكَاكِيْنِ عَلَيْهِنَّ كُلُّهُنَّ.. فَلَيْسَ الْمَقَامُ مَقَامُ إِكْرَامٍ، و الْدَّلِيْلُ قَوْلُ يُوَسُفَ u لِرَسُوْلِ الْمَلِكِ {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} يوسف: ٥٠، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَىَ أَنَّ يُوَسُفَ u يُرِيْدُ أَنْ يُرْسِلَ إِلَىَ الْمَلِكِ بِرِسَالَةٍ مُخْتَصَرَةٍ تَجْعَلْهُ يُدْرِكُ حَقِيْقَةَ مَا حَصَلَ قَبْلَ سَنَوَاتٍ.. فَتَجريحُ الأَيْدِيَ لا بُدَّ أَنْ تَكُوْنَ لَهُ دَلالَةٌ يَفْهَمُهَا الْمَلِكُ، لِذَا نَجِدُ أَنَّ الْمَلِكَ وبَعْدَ وُصُوْلِ الْرِّسَالَةِ إِلَيْهِ يَقُوْلُ لِلْنِّسَاءِ {قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ…} يوسف: ١٠٠، و هَذَا يُشِيْرُ إِلَىَ أَنَّ تَقَطِيعُ الأَيْدِيَ لَهُ دَلالَةً عُرْفِيَّةً شَائِعَةً فِيْ ذَلِكَ الْزَّمَانِ، فَقَدْ عَاشَ يُوْسُفُ u و إِخْوَتُهُ فِيْ مُجْتَمَعَاتٍ بَدَوِيَّةٍ {…وَ قَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَ جَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْو مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَ بَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُو الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} يوسف: ١٠٠، و هَذَا يَعْنـِيْ احْتِمَالُ وُجُوْدِ الْعَادَاتِ الْغَرِيْبَةِ الْمُجَافِيّةِ لِلْتَحَضُّرِ فِيْ ذَلِكَ الْعَصْرِ.
من العادات القديمة السائدة بيننا.. استخدام الخنصر للمصالحة و التسامح.. و هذه العادة موجودة إلى يومنا هذا في قُرى في شرق الصين حيث يجرح الشاب و الشابة خنصريهما و يخلطانِ الدم دلالة على الحُب إلى الأبد.. و في نفس هذه الأقاليم تستخدم ظاهرة التجريح للاعتذار.. حيث يجرح المخطئ يده اعتذاراً لمن أخطأ في حقه.. نَفْهَمُ الآنَ أَنَّ مَجمُوعَةً مِنْ الْنِّسَاءِ تَذَكُرُ زَوْجَةَ عَزِيْزِ مِصْرَ.. صَاحِبُ أَعْلَىَ مَنْصِبٍ بَعْدَ الْمَلِكِ بِسُوَءٍ.. و هُنَّ مُقْتَنِعَاتٍ بِأَنَّ هَذِهِ الْزَّوْجَةُ فِيْ ضَلالٍ مُبِيْنٍ {وَ قَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} يوسف: ٣٠، ثُمَّ تَقُوْمُ زَوْجَةُ الْعَزِيْزِ صَاحِبَةِ الْنّفُوْذِ و السَّلَطَانِ بِاسْتِدْعَاءِ الْنِّسَاءِ الطَاعِنَاتِ بِهَا و بِسُلُوكِهَا لِتُوَضِّحُ لَهُنَّ الْسَّبَبَ الْمُسْتَدْعِيَ لِلاعْتِذَارِ، و لا أَدَلَّ عَلَىَ عُذْرِهَا ذَلِكَ مِنْ رَدَّةِ فِعْلِهُنَّ عِنْدَ رُؤْيَةِ يُوَسُفَ، فَالَنِّسَاءُ يَعْرِفْنَ عَادَاتِ الْمُجْتَمَعِ و تَقْالِيْدَهِ و وَاجِبَهُنَّ تُجَاهَ الْمَنْصِبُ الْرَّفِيْعُ.. فَكَلامُهُنَّ فِيْ غَيْبَتِهَا جَرْحٌ مَعْنَوِيٌ لِمَقَامٍ رَفَيْعٍ و هَذِهِ جُرْأَةٌ لا بُدَّ مِنْ الاعْتِذَارِ عَنْهَا بِمَا يَلِيْقُ، و الْجَرْحُ الْمَعْنَوِيِّ لِهَذَا الْمَقَامِ لا يَغْفِرُهُ إِلاَّ جَرْحٌ حِسِّيٌّ.. و الاعْتِذَارُ يَكُوْنُ فِيْ الْعَادَةِ أَشَدُ عِنْدَمَا تَظْهَرُ الْبَـرَاءَةُ، مِنْ هُنَا لَمْ تَكْتَفِ الْنِّسَاءُ بِجَرْحٍ وَاحِدٍ لأَيْدِيَهِنَّ، بَلْ كَرَّرْنَ ذَلِكَ لْمَزِيدُ مِنْ الاعْتِـرَافِ و الأَسَفِ، و عِنْدَمَا رَأَتْ امْرَأَتُ الْعَزِيْزِ ذَلِكَ سَارَعَتْ إِلَىَ الْقَوْلِ {…فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَ لَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَ لَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَ لَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ} يوسف: ٣٢.
الآَنَ و إِضَافَةً إِلَىَ الاعْتِذَارِ الْحِسِّيِّ عَنْ الْجَرْحِ الْمَعْنَوِيِّ.. يُمْكِنُ أَنْ يَكُوْنَ مِثْلُ هَذَا الْسُلُوكِ عِنْدَ تِكْرَارِهِ يَدُلُّ عَلَىَ رَغْبَةٍ فِيْ الْمُشَارَكَةِ بِنَفْسِ جُرْمِ امْرَأَتِ الْعَزِيْزِ، و يُعَزِّزُ هَذَا الاحْتِمَالَ:
– قَوْلُهُ I عَلَىَ لِسَانِ الْمَلِكِ: {…مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ…} حَيْثُ شَارَكَنَ جَمِيْعُهُنَّ فِيْ مُرَاوَدَتِهِ.
– قَوْلُهُ I عَلَىَ لِسَانِ يُوَسُفَ u {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَ إِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَ أَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} يوسف: ٣٣، فَالمُرَاوَدَةُ لَمْ تَعُدْ مُقْتَصِرَةً عَلَىَ زَوْجَةِ الْعَزِيْزِ، بَلْ حَصَلَ نَوْعٌ مِنْ التَّوَاطُؤِ بَيْنَ الْنِّسْوَةِ و كَأَنَّهُ الْحِلْفُ.
– الْيَوَمُ فِيْ بَعْضِ عَادَاتِ الْبَدْو إِذَا أَرَادَ شَخْصٌ أَنْ يُعَاهِدَ شَخْصَاً عَلَىَ الْتَّعَاوُنِ و الْوَفَاءِ يَقُوْمُ كُلٌ مِنْهُمَا بِجَرْحِ إصبعه ثُمَّ يَجْعَلانِ الْدَّمَ عَلَىَ الْدَّمِ لِيَتِمُّ اخْتِلاطِ الْدِّمَاءِ كَرَمْزٍ لِقُوَّةِ الْتَّحَالُفِ بَيْنَ الْشَّخْصَيْنِ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ يَحْصُلُ الْيَوْمَ فَمِنْ الأَوْلَىْ أَنْ يَحْصُلَ مِثْلَهُ قَبْلَ سِتَّةِ و ثَلاثِيْنَ قَرْنَاً.
خُلاصَةُ الأَمْرِ أَنَّ الاحْتِمَالَ الأَقْوَى أَنْ تَكُوْنَ الْنِّسَاءُ قَدْ قَدَّمْنَ الاعْتِذَارَ و قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ و إِشْهَارُ ذَلِكَ أَمَامَ امْرَأَتُ الْعَزِيْزِ ثُمَّ كَرّرْنَ الْجَرْحَ لِيُعْلِنَّ عَنْ التَّعَاطُفِ و رَغْبَةِ الْمُشَارَكَةِ فِيْ يُوَسُفَ u.. إِنَّ هَؤُلاءِ النِّسْوَةَ يَنْتَمُونَ إِلَى قَبِيلَةِ الهُكْسُوس، و أَصْلُ التَّسْمِيَةِ (هُكّ = حَقَّ؛ سُوسٌ = حِصَانٌ أَيْ حَقُّ الحِصَانِ أَو مَالِكُ الحِصَانِ أَو مُلُوكُ الخَيْلِ) و هُمْ مِنْ العَرَبِ جاءوا مِنْ فِلَسْطِينَ و بِلادِ الشَّامِ و تَوَجَّهُوا إِلَى مِصْرَ و تَغَلَّبُوا عَلَى الفَرَاعِنَةِ و هَزَمُوهُمْ و كَوَّنُوا أُسَراً حَاكِمَةً اِمْتَدَّ حُكْمُهَا لِمَا يُقَارَبُ ٣٠٠ عَامٍ، خِلالَ فَتْـرَةِ حُكْمِهِمْ كَانَتْ رِحْلَةُ يُوسُفَ إِلَى مِصْرَ بَعْدَ بَيْعِهِ.. وُجِدُوا قَبْلَ الإِسْلامِ بِقُرُونٍ؛ أَرْوَعُ مَآثِرَهُمْ أَنَّهُمْ اِحْتَضَنُوا يُوسُفَ و مِنْ بَعْدِهِ يَعْقُوبَ u و زَوْجَتَهُ و أَبْنَاءَهُ الأَسْبَاطِ؛ و جَعَلُوا يُوسُفَ u مَكِينٌ أَمِينٌ وَ جَعَلُوهُ عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ {وَ قَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (٥٤) قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (٥٥) وَ كَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَ لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} يوسف: ٣٣ .. و سَمَحُوا لِيُوسُفَ u بِاِسْتِقْدَامِ كُلَّ أَهْلِهِ إِلَى مِصْرَ {فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَ قَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} يوسف: ٣٣ .. و يُوسُفُ u كَانَ لَهُ بَيْنَ الْهُكْسُوْسِ مَا يُشَبِّهُ الوَضْعَ المَلَكِيَّ {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَ عَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَ الأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَ الآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَ أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} يوسف: ٣٣.. و الحُكْمُ العَدْلُ كَانَ سَارِيًا بَيْنَ الْهُكْسُوْسِ {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَ اسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ} يوسف: ٣٣.
و لَقَدْ أَرْشَدَنَا القُرْآنُ الكَرِيمُ لِلتَّمَايُزِ الوَاضِحِ و الفَرْقِ بَيْنَ الفَرَاعِنَةِ و الْهُكْسُوْسِ فِي كَثِيـرٍ مِنْ آيَاتِهِ المُعْجِزَةِ، فَالقُرْآنُ الكَرِيمُ عِنْدَمَا يَتَحَدَّثُ عَنْ الفَرَاعِنَةِ و خَاصَّةً الحُكَّامُ مِنْهُمْ يَتَحَدَّثُ عَنْهُمْ بِلَقَبِ (فِرْعَوْن) دَائِمًا؛ و حِينَمَا يَتَحَدَّثُ عَنْ حُكَّامِ مِصْرَ مِنْ الْهُكْسُوْسِ يَتَحَدَّثُ عَنْهُمْ بِلَقَبِ (مَلِك) و هَذَا وَاضِحٌ فِي قِصَّةِ يُوسُفَ u.
و مِنْ أَمْثِلَةِ التَّحَالُفِ بِالدَّمِ الَّتـِي رَصَدَهَا التَارِيخُ أَنَّهُ لَمَّا أَسَنّ قُصَيَّ عَهِدَ لاِبْنِهِ عَبَدُالدَّارِ بِجَمِيعِ وَظَائِفِهِ، و كَانَ عَبْدُالدَّارِ أَكْبَـرُ أَبْنَائِهُ فَثَابَرَ عَلَى القِيَامِ بِهَا فِي حَيَاةِ أَبِيِهِ و بَعْدَ وَفَاتِهِ، إِلَى أَنْ تَوَفَّى فَتَوَلاّهَا أَوْلادُهُ مِنْ بَعْدِهِ.. غَيْـرَ أَنَّ أَوْلادِ عَمِّهِمْ عَبْدُمَنَافٍ.. و كَانَ هَذَا قَدْ عَظَمُ شَأْنُهُ و سَادَ قَوْمَهُ فِي أَيَّامِ أَبِيْهِ، و كَانَ لَهُ الفَضْلُ فِي أَنَّهُ عَقَدَ حِلْفًا مَعَ بَعْضِ القَبَائِلِ، و هُو حِلْفُ الأحَابِيشِ، فَرَأَوْا أَنَّهُمْ أَحَقُّ بِتَوَلِّيهَا لَمَّا لَهُمْ مِنْ النَّبَاهَةِ و الفَضْلُ، و كَانُوا أَرْبَعَةً هُمْ: عَبْدُشَمْسٍ و هَاشِمُ وَ المَطْلَبُ و نَوْفَلُ، فَتَفَرَّقَتْ كَلِمَتَهُمْ، إِذْ آزَرَ قِسْمٌ مِنْهَا بَنـِي عَبْدُمَنَاف، و أَيَّدَ آخَرُونَ بِنـِي عَبْدُالدَّارِ، و بَادَرَ كُلٌّ مِنْ الفَرِيقَيْنِ إِلَى عَقْدِ تَحَالُفٍ ضِدَّ الآخَرِ.. و قَدْ سُمِي الحِلْفُ الَّذِي تَزَعَمَّه بَنُو عَبْدِمَنَافٍ بِاسْمِ “حِلْفُ المُطّيبينَ” إِذْ أَتَوْا بِجَفْنَةٍ مَمْلُوءَةً بِالطَّيِّبِ غَمَسُوا أَيْدِيهُمْ فِيهَا.. و أَقْسَمُوا عَلَى التناصُرِ و التآزرِ، ثُمَّ مَسَحُوهَا بِجُدْرَانِ الكَعْبَةِ، بَيْنَمَا عَقَدَ خُصُومَهُمْ بَنُو عَبْدِالدَّارِ مَعَ مَنْ اِنْضَمَّ إِلَيْهُمْ مِنْ البُطُونِ حِلْفًا مَهَّدُوا لَهُ بِإِحْضَارِ جَفنة مَمْلُوءَةً بِالدَّمِ و غَمَسُوا أَيْدِيهُمْ فِيهَا، ثُمَّ مَسَحُوهَا بِجُدْرَانِ الكَعْبَةِ فَسُمُّوا “الأَحْلافَ” و “لَعَقَةُ الدَّمِ”، و أَوْشَكَتْ أَنْ تَقَعَ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ حَرْبٌ طَاحِنَةٌ، لَوْلا أَنْ تَدَارَكَهَا بَعْضُ العُقَلاءِ، و نَجَحَتْ مَسَاعِي الصُّلْحِ، و تَمَّ الاِتِّفَاقُ عَلَى أَنَّ تَكَوُّنَ السّقاية و الرّفَادةُ لِبَنـِي عَبْدُمَنَافُ، و الحِجَابَةُ و اللِّوَاءُ و رِئَاسَةُ دَارُ النَّدْوَةِ لِبَنِيْ عَبْدُالدَّارِ.
فِي السُّودَانِ، مَثَلاً.. التَّحَالُفُ بِالدَّمِ يَقْتَضِي بِأَنْ يَجْرَحَ أَحَدُهُمْ ذِرَاعَهُ بِالحَرْبَةِ و يَمْتَصُّ الآخَرُ دَمُهُ، فَيَصِيرَانِ كَالأَخَوَيْنِ الشَّقِيقَيْنِ بُقَولِهَا: (يَرْبُطُنَا حَبْلٌ، وَ تَقَطَّعْنَا سَيْفٌ).. و طُقُوسُ الدَّمِ و الشَّعْرِ.. و هُي طَقْسُ القَسْمِ و العَهْدُ بِالوَلاءِ حَتّـَى المَوْتِ عِنْدَ الشُّعُوبِ الأَمَازِيغِيَّةِ القَدِيمَةِ، حَيْثُ يَقُومُ الشَّخْصُ المَعْنِـيَّ بِالقَسَمِ بِإِرَاقَةِ دَمٍ مِنْ يَدِهِ اليُسْرَى و إسَالَةِ دَمَهُ عَلَى شَعْرِ دُمْيَةٍ مَصْنُوعَةٍ مِنْ القُمَاشِ و تَلْطِيخِهَا بِدَمِهِ تَمَّ حَرْقُهَا فِي النَّارِ و بِالتَّالِي يَكُونُ قَدْ أَدَّى قَسَمُ الوَلاءِ و الشَّرَفِ لِلعَائِلَةِ و زُعَمَائِهِ، و هِيَ طُقُوسٌ وَثَنِيةٌ.. لا تَزَالُ المَافِيَا الصِقِيْلِيةِ تُمَارِسُهَا كَطَقْسٍ مِنْ طُقُوسِ الوَلاءِ لِلعَائِلَةِ و فِي الأَصْلِ لِلقَبِيلَةِ، فَالدَّمُ كَانَ دَائِمًا رَمْزًا مِنْ رُمُوزِ الشَّرَفِ عِنْدَ الأَمَازِيغِ.. و مِنْ هَذَا التَّسَلْسُلِ التَّارِيخِيِّ نَجِدُ أَنَّ الاِعْتِذَارَ و التَّحَالُفَ بِالدَّمِ عَادَةً لَيْسَتْ جَدِيدَةً لِمَا قَامَتْ بِهِ امْرَأةُ العَزِيزِ.